اتّصل بي والغضب يبدو من نبرة صوته، ويهزّ كلّ حرف ينطق به، وكأنّ كلماته حمم بركان يغلي في داخله، ورجوم شهب تقذف ولا ترحم.. ورمى إليّ بهذه الكلمات بدون تحفّظ ولا مقدّمات: (علّة الأمّة هؤلاء المشايخ المنافقون، الذين يمالئون الظالم، ويسكتون عن جرائمه، ويثبّطون الناس عن التظاهر والجهر بالحقّ.. أيّ ذلّ وهوان بلغته الأمّة إذا كان علماؤها بهذه الصورة المهينة؟! كيف لنا أن نثق بهؤلاء المشايخ، وهم يقفون مع الظالم، ولا يقولون كلمة الحقّ لنصرة المظلوم؟!) فقلت له: هوّن عليك.. فلن أدافع عن أحد بغير حقّ.. ولكن دعني أسألك هذا السؤال: ماذا تصنّف سلوك هؤلاء المشايخ؟! وهل هو حدث طارئ في هذا العصر؟! أم له أمثال وأمثال؟! فقال: وماذا تعني بتصنيف سلوكهم.. إنّهم مجرمون بحقّ دينهم وشعبهم.. قلت: لا أعني ذلك.. ولكن أليس هو نوعًا من الابتلاء، الذي أمرنا بالصبر عليه ومغالبته، ومعالجة أسبابه؟! فلماذا نضيق به ذرعًا، ونضجر أمامه ونتأفّف، ونتقبّل ابتلاءات أخرى ونعالجها؟! وأجيب عنك على ذلك، لأنّنا نفاجأ به، ولا نتوقّعه، ونتصوّر المشايخ كالملائكة المطهّرين، أو الأنبياء المعصومين.. وهذا في الحقيقة خطؤنا.. لأنّ هذا الأمر ليس بجديد، وإنّما هو قديم قدم هذه الأمّة، كما أنّه مُستشر في الأمم الأخرى، بل هو سرّ انحرافها، وفساد دينها، وتحريفها لكتاب ربّها.. وقد ندّد القرآن الكريم بهؤلاء في مناسبات عديدة، وضرب لهم أسوأ الأمثال، وفي ذلك تحذير لهذه الأمّة أن تحذو حذو تلك الأمم، فيصيبها من غضب الله ونكاله ما أصابها..
قف معي متدبّرًا هذه الآيات، التي تتحدّث عن أنواع من فساد أولئك الذين اؤتمنوا على دين الله، فخانوا الأمانة، واشتروا بآيات الله ثمنًا قليلًا، ليتبيّن لك خطر علماء السوء على دين الأمّة ومنهج حياتها:
من كتاب الله تعالى:
{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُون} [البقرة: 79].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم} [التوبة: 34].
{وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُون} [آل عمران: 187].
فهذه الآيات تحدّثت عن صنف من هؤلاء، وهم الذين يشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا، ويأكلون أموال الناس بالباطل، وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله.. فأحوال هؤلاء كلّها دارت في فلك إيثار الفانية على الباقية، والطمع في الدنيا، واللهاث وراء شهواتها، واتّخاذ الدين مطيّة للدنيا.. فهذا الصنف لا يعنيهم الحقّ شيئًا، يدورون في فلك شهواتهم، وهم غارقون في مستنقعها، إلاّ أن تتداركهم رحمة الله فيتوبوا إليه قبل موتهم..
كما حذّر سلف الأمّة الأخيار، وعلماؤها الأبرار من شرّ هؤلاء على دين الناس وأخلاقهم، يقول الإمام الغزاليّ رحمه الله: واحترز عن الاغترار بتلبيسات علماء السوء فإنّ شرّهم على الدين أعظم من شرّ الشياطين، إذ الشيطان بواسطتهم يتدرّج إلى انتزاع الدين من قلوب الخلق.
وقال الحسن رحمه الله: عقوبة العلماء موت القلب وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة.
وقال يحيى بن معاذ: إنما يذهب بهاء العلم والحكمة إذا طلب بهما الدنيا.
وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فهو لص.
وقال الآخر:
يا معشر القراء يا ملح البلد *** ما يصلح الملح إذا الملح فسد.
وقال حاتم الأصم رحمه الله: ليس في القيامة أشدّ حسرة من رجل علم الناس علما فعملوا به، ولم يعمل هو به ففازوا بسببه وهلك هو.
وقال مالك بن دينار: إنّ العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا، وأنشدوا:
يا واعظ الناس قد أصبحت متهما *** إذ عبت منهم أمورا أنت تأتيها
أصبحت تنصحهم بالوعظ مجتهدا *** فالموبقات لعمري أنت جانيها
تعيب دنيا وناسا راغبين لها *** وأنت أكثر منهم رغبة فيها
وقال آخر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: مررت بحجر بمكة مكتوب عليه: اقلبني تعتبر، فقلبته فإذا عليه مكتوب: أنت بما تعلم لا تعمل فكيف تطلب علم ما لم تعلم.
وقال ابن السماك رحمه الله: كم من مذكر بالله ناس لله! وكم من مخوف بالله جريء على الله! وكم من مقرب إلى الله بعيد من الله! وكم من داع إلى الله فارّ من الله! وكم من تال كتاب الله منسلخ عن آيات الله!
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: لقد أعربنا في كلامنا فلم نلحن، ولحنّا في أعمالنا فلم نعرب.
وقال الحارث المحاسبيّ رحمه الله: علماء السوء شياطين الإنس، وفتنة على الناس، رغبوا في عرض الدنيا ورفعتها، وآثروها على الآخرة، وأوّلوا الدين للدنيا، فهم في العاجل عار وشين، وفي الآخرة هم الخاسرون، أو يعفو الكريم بفضله.
وقَالَ الجرجانيّ في أبياته المشهورة:
ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم *** ولو عظّموه في النفوس لعُظّما
ولكن أهانوه فهان ودنّسُوا *** مُحيّاه بالأطماع حتّى تجهّما
كما حثّ سلف هذه الأمّة طالب العلم أن يبتغي بعلمه وجه الله تعالى، ويكون من علماء الآخرة، يقول الإمام الغزاليّ رحمه الله: إنّ الفائزين المقربين هم علماء الآخرة، ولهم علامات؛ فمنها: أن لا يطلب الدنيا بعلمه، فإنّ أقلّ درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها وكدورتها وانصرامها، وعظم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة ملكها، ويعلم أنّهما متضادتان، وأنّهما كالضرتين مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، وأنّهما ككفتي الميزان مهما رجحت إحداهما خفت الأخرى، وأنّهما كالمشرق والمغرب مهما قربت من أحدهما بعدت عن الآخر، وأنّهما كقدحين أحدهما مملوء والآخر فارغ، فبقدر ما تصب منه في الآخر حتّى يمتلئ يفرغ الآخر، فإنّ من لا يعرف حقارة الدنيا وكدورتها، وامتزاج لذّاتها بألمها، ثمّ انصرام ما يصفو منها فهو فاسد العقل مَفتون..
وقيل: خمس من الأخلاق هي من علامات علماء الآخرة، مفهومة من خمس آيات من كتاب الله عزّ وجلّ: الخشية، والخشوع، والتواضع، وحسن الخلق، وإيثار الآخرة على الدنيا، وهو الزهد. فأمّا الخشية فمن قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}. وأمّا الخشوع فمن قوله تعالى: {خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلًا}. وأمّا التواضع فمن قوله تعالى: {واخفض جناحك للمؤمنين}. وأمّا حسن الخلق فمن قوله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم}. وأمّا الزهد فمن قوله تعالى: {وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحًا}.
وكان من سمت علماء الآخرة وهديهم أنّهم لا يدخلون على ولاة الأمر والأمراء إلاّ ناصحين مذكّرين، بالحكمة والموعظة الحسنة، من قلوب لا تعرف إلاّ شرع الله عزّ وجلّ، ولا تبتغي إلاّ مرضاته، والنصح لعباده.
روي أنّ أبا بكرة دخل على معاوية رضي الله عنهما فقال: اتق الله يا معاوية، واعلم أنّك في كلّ يوم يخرج عنك، وفي كلّ ليلة تأتي عليك، لا تزداد من الدنيا إلاّ بعدًا، ومن الآخرة إلاّ قربًا، وعلى أثرك طالب لا تفوته، وقد نصب لك علمًا لا تجوزه، فما أسرع ما تبلغ العلم، وما أوشك ما يلحق بك الطالب، وإنّا وما نحن فيه زائل، وفي الذي نحن إليه صائرون باق، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرّ.
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لأبي حازم: عظني، فقال: اضطجع، ثمّ اجعل الموت عند رأسك، ثمّ أنظر إلى ما تحبّ أن يكون فيك تلك الساعة فخذ به الآن، وما تكره أن يكون فيك تلك الساعة فدعه الآن، فلعلّ تلك الساعة قريبة.
ودخل أعرابيّ على سليمان بن عبد الملك فقال له: تكلم يا أعرابيّ، فقال: يا أمير المؤمنين إنّي مكلمك بكلام فاحتمله، وإن كرهته فإن وراءه ما تحبّ إن قبلته، فقال: يا أعرابيّ! إنّا لنجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه، ولا نأمن غشّه، فكيف بمن نأمن غشّه، ونرجو نصحه.؟ فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين إنّه قد تكنّفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياهم بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله تعالى، ولم يخافوا الله فيك، حرب الآخرة، سلم الدنيا، فلا تأتمنهم على ما ائتمنك الله تعالى عليه، فإنّهم لم يألوا في الأمانة تضييعًا، وفي الأمّة خسفًا وعسفًا، وأنت مسئول عمّا اجترحوا، وليسوا بمسئولين عمّا اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبنًا من باع آخرته بدنيا غيره، فقال له سليمان: يا أعرابيّ أما إنك قد سللت لسانك، وهو أقطع سيفيك. قال: أجل يا أمير المؤمنين، ولكن لك لا عليك.
ويصوّر الأديب الرافعيّ أهمّيّة العلماء في كيان الأمّة، وأثرهم في تقويم الراعي والرعيّة، وخطر انزلاقهم إلى الدنيا، وتفريطهم بأمانة العلم والدين فيقول: ما يحسن بحامل الشريعة أن ينطق بكلام يردّه الشرع عليه؛ ولو نافق الدين لبطل أن يكون دينًا، ولو نافق العالم الدينيّ لكان كلّ منافق أشرف منه؛ فلطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود، والمنافق رجل مغطّى في حياته، ولكن عالم الدين رجل مكشوف في حياته لا مغطّى؛ فهو للهداية لا للتلبيس، وفيه معاني النور لا معاني الظلمة؛ وذاك يتّصل بالدين من ناحية العمل، فإذا نافق فقد كذب؛ والعالم يتصل بالدين من ناحية العمل وناحية التبيين، فإذا نافق فقد كذب وغشّ وخان.
وما معنى العلماء بالشرع إلاّ أنّهم امتداد لعمل النبوّة في الناس دهرًا بعد دهر، ينطقون بكلمتها، ويقومون بحجّتها، ويأخذون من أخلاقها، كما تأخذ المرآة النور، تحويه في نفسها، وتلقيه على غيرها، فهي أداةٌ لإظهاره وإظهار جماله معًا.
أتدري يا ولدي ما الفرق بين علماء الحقّ وعلماء السوء، وكلّهم آخذ من نور واحد لا يختلف؟ إنّ أولئك في أخلاقهم كاللوح من البلّور؛ يظهر النور نفسه فيه، ويظهر حقيقته البلّوريّة؛ وهؤلاء بأخلاقهم كاللوح من الخشب، يظهر النور حقيقته الخشبية لا غير!
وعالم السوء يفكّر في كتب الشريعة وحدها؛ فيسهل عليه أن يتأوّل ويحتال، ويغيّر ويبدّل، ويظهر ويخفي؛ ولكنّ العالم الحقّ يفكّر مع كتب الشريعة في صاحب الشريعة، فهو معه في كلّ حالة، يسأله: ماذا تفعل.؟ وماذا تقول؟
والرجل الدينيّ لا تتحوّل أخلاقه ولا تتفاوت، ولا يجيء كلّ يوم من حوادث اليوم، فهو بأخلاقه كلّها، لا يكون مرّة ببعضها، ومرة ببعضها، ولن تراه مع ذوي السلطان وأهل الحكم والنعمة كعالم السوء هذا الذي لو نطقت أفعاله لقالت لله بلسانه: هم يعطوني الدراهم والدنانير فأين دراهمك أنت ودنانيرك؟
إنّ الدينار يا ولدي إذا كان صحيحًا في أحد وجهيه دون الآخر، أو في بعضه دون بعضه، فهو زائف كلّه؛ وأهل الحكم والجاه حين يتعاملون مع هؤلاء يتعاملون مع قوّة الهضم فيهم.. فينزلون بذلك منزلة البهائم؛ تقدم أعمالها لتأخذ بطونها، والبطن الآكل في العالم السوء يأكل دين العالم فيما يأكله..
فإذا رأيت لعلماء السوء وقارًا فهو البلادة، أو رقّة فسمّها الضعف، أو محاسنة فقل: إنّها النفاق، أو سكوتًا عن الظلم فتلك رشوة يأكلون بها!
نحن يا ولدي مع هؤلاء كالمعنى الذي يصحّح معنى آخر، فإذا أمرناهم، فالذي يأمرهم فينا هو الشرع لا الإنسان، وهم قوم يرون لأنفسهم الحق في إسكات الكلمة الصحيحة أو طمسها أو تحريفها؛ فما بدّ أن يُقابَلوا من العلماء والصالحين بمن يرون لأنفسهم الحقّ في إنطاق هذه الكلمة وبيانها وتوضيحها؛ فإذا كان ذلك فههنا المعنى بإزاء المعنى؛ فلا خوف ولا مبالاة، ولا شأن للحياة والموت.
وإنما الشرّ كلّ الشرّ أن يتقدّم إليهم العالم لحظوظ نفسه ومنافعها، فيكون باطلًا مزوّرًا في صورة الحقّ؛ وههنا تكون الذات مع الذات، فيخشع الضعف أمام القوّة، ويذلّ الفقر بين يدي الغنى، وترجو الحياة لنفسها، وتخشى على نفسها؛ فإذا العالم من السلطان كالخشبة البالية النخرة تحاول أن تقارع السيف!
إنّ السلطان والحكّام أدوات يجب تعيين عملها قبل إقامتها، فإذا تفكّكت واحتاجت إلى مسامير دقّت فيها المسامير؛ وإذا انفتق الثوب فمن أين للإبرة أن تسلك بالخيط الذي فيها إذا هي لم تخُزّه؟ .. إنّ العالم الحقّ كالمسمار؛ له عمله ومهامّـه، فإذا أوجد المسمار لذاته دون عمله كفرت به كلّ خشبة.
الكاتب: د. عبد المجيد البيانوني.
المصدر: موقع المسلم.